اضطرابات الدهون الوراثية: عندما لا يكفي نمط الحياة الصحي لحماية قلبك

هل سمعت يومًا عن شخص يمارس الرياضة بانتظام، ويأكل طعامًا صحيًا، ومع ذلك يصاب بنوبة قلبية في سن الثلاثين أو الأربعين؟

غالبًا ما نربط ارتفاع الكوليسترول بالعادات الغذائية السيئة وقلة الحركة، لكن هناك "عدو خفي" يسري في جينات العائلات، يُعرف بـ اضطرابات الدهون الوراثية (Genetic Lipid Disorders). في هذه التدوينة، سنغوص في عمق هذه الحالة، وكيفية الوقاية من مضاعفاتها، وأحدث ما توصل إليه العلم من علاجات ثورية.

ما هي اضطرابات الدهون الوراثية؟

اضطرابات الدهون الوراثية هي مجموعة من الحالات التي تؤثر على قدرة الجسم على تكسير أو إزالة الدهون (الليبيدات) من الدم. وأكثرها شيوعًا هو فرط كوليسترول الدم العائلي (Familial Hypercholesterolemia - FH).

في الأشخاص الأصحاء، يقوم الكبد بإزالة الكوليسترول الضار (LDL) من الدم. أما في مرضى الـ FH، فإن طفرة جينية تجعل الكبد عاجزًا عن أداء هذه المهمة بكفاءة، مما يؤدي إلى تراكم الكوليسترول في الشرايين منذ الولادة.

علامات تحذيرية قد تشير إلى الإصابة:

  • مستويات كوليسترول ضار (LDL) مرتفعة جدًا (أكثر من 190 ملغ/ديسيلتر للبالغين).
  • تاريخ عائلي للإصابة بأمراض القلب المبكرة (قبل سن 55 للرجال أو 65 للنساء).
  • ترسبات دهنية صفراء حول العينين (Xanthelasma) أو في أوتار الكعب واليدين.

العلاقة الخطيرة بأمراض القلب والأوعية الدموية

المشكلة الكبرى في هذه الاضطرابات هي عامل "الوقت". الشخص المصاب بارتفاع الكوليسترول الوراثي يتعرض لمستويات عالية من الدهون منذ يوم ولادته، وليس فقط في منتصف العمر.

هذا التعرض التراكمي يسرع من عملية تصلب الشرايين (Atherosclerosis)، مما يرفع خطر الإصابة بالنوبات القلبية والسكتات الدماغية بمعدل يصل إلى 20 ضعفًا مقارنة بالأشخاص العاديين إذا لم يتم العلاج.

التطورات السريرية: حقبة جديدة من العلاج

لسنوات طويلة، كانت أدوية "الستاتين" (Statins) هي خط الدفاع الأول والوحيد تقريبًا. ورغم فعاليتها، إلا أنها لم تكن كافية لبعض المرضى للوصول إلى المستويات المستهدفة. اليوم، نعيش ثورة طبية حقيقية:

  1. مثبطات PCSK9 (الأجسام المضادة وحيدة النسيلة): تعمل هذه الأدوية (مثل Evolocumab و Alirocumab) عن طريق تعطيل بروتين في الكبد يمنع التخلص من الكوليسترول. النتائج مذهلة، حيث تخفض الكوليسترول الضار بنسبة تصل إلى 60% إضافية فوق تأثير الستاتين.
  2. تداخل الحمض النووي الريبوزي (siRNA) - دواء "إنكليسيران": يعتبر هذا الدواء قفزة نوعية؛ بدلاً من حقنه كل أسبوعين، يُعطى مرتين فقط في السنة. يعمل الدواء (Inclisiran) على منع الكبد من إنتاج بروتين PCSK9 من الأساس، مما يسهل الالتزام بالعلاج بشكل كبير.
  3.  مثبطات ANGPTL3: للحالات النادرة والأكثر صعوبة (مثل فرط الكوليسترول العائلي متماثل الجينات)، ظهر دواء Evinacumab الذي يعمل بآلية مختلفة تمامًا لا تعتمد على مستقبلات الكوليسترول التقليدية، مما يمنح أملًا لمرضى لم تكن لديهم خيارات سابقة.
  4. تحرير الجينات (CRISPR) - نظرة للمستقبل: تجري حاليًا تجارب سريرية واعدة لاستخدام تقنية "كريسبر" لتعديل الجين المسؤول في الكبد لمرة واحدة فقط في العمر، مما قد يعني "شفاءً" دائمًا بدلاً من علاج مستمر.

الوقاية والاستراتيجية العلاجية

الوقاية في حالات الدهون الوراثية تعني الاكتشاف المبكر.

  1. فحص التسلسل العائلي (Cascade Screening): إذا تم تشخيص فرد واحد في العائلة، يجب فحص جميع الأقارب من الدرجة الأولى (الإخوة، الأبناء، الوالدين).
  2. نمط الحياة: رغم أن الجينات هي السبب، إلا أن الغذاء الصحي والرياضة والامتناع عن التدخين ضرورية لتقليل عوامل الخطر الأخرى.
  3. العلاج المبكر: البدء في العلاج الدوائي في سن مبكرة (أحيانًا في سن الطفولة) يمكن أن يعيد متوسط العمر المتوقع للمريض إلى المعدل الطبيعي.


رسالة أخيرة


اضطرابات الدهون الوراثية ليست حكمًا حتميًا بمرض القلب، بل هي حالة قابلة للإدارة بامتياز بفضل العلم الحديث. إذا كان لديك تاريخ عائلي من أمراض القلب المبكرة، لا تكتفِ بفحص الكوليسترول الروتيني، بل اسأل طبيبك عن الفحوصات الجينية المتقدمة.

قلبك يستحق المعرفة، والمعرفة هي أولى خطوات الوقاية.

Popular posts from this blog

الذكاء الاصطناعي في المجال الطبي